بتول ماذا فعلوا بالشمس؟! (الفصل الأول )

منال عبد الحميد

فتوكة جديدة
download.jpg




تساقطت الكتلة فوق بعضها.. واندمجت الرؤوس والأذرع والسيقان للحظة..

تداخلت الأجساد وتقاربت، حتى كادت الأطراف تتبادل، ويستعير كل جسد طرفًا أو رأسًا أو نسيجًا من الأخر.. لم يكن عدد الأطراف المتداخلة مجتمعة في تلك الكتلة ليزيد عن ستين طرفًا، خمسة عشر زوجًا من الأذرع والأقدام، ومعها عددًا مماثلًا من الرؤوس المختلفة الأشكال.. بعضها رؤوس ضخمة حليقة، والقليل منها بشعر طويل مربوط، وأقل مغطاة بقطع من قماش يفرض الدين ارتداءها تحت اسم (حجاب).. شبابًا مكتملي الرجولة، ومراهقين متحمسين، ومعهم ثلاث فتيات!

كلهم تكوموا فوق بعضهم، حينما انتشرت أدخنة قنابل الغاز وامتلأ الميدان برائحتها النفاذة الحارقة.. لم تبخل الشرطة المتحمسة دومًا على هؤلاء الشباب، هؤلاء المتظاهرين العزل، بدفعات سخية متتالية من قنابل الغاز.. من كان حظه يخطط له أن يمر في ذلك الميدان في تلك الساعة كان حريّ بأن يشعر بالفخر، وتنتفخ أوداجه بالوطنية.. بدا أن مصر دولة ثرية حقًا، وتمتلك في مخازنها، من قنابل الغاز، أكثر مما يوجد في صوامعها من قمح، وأكثر مما تختزنه خزائن البنك المركزي من عملة صعبة.. إن أموال دافعي الضرائب تستخدم جيدًا جدًا، يُشترى بها قنابل غاز وهراوات، وعصي صعق لحماية أمن الوطن من ثلة من الشباب المخربين، الذي يريدون بأصواتهم وبهتافاتهم وبحناجرهم العارية، أن يسقطوا دولة تأسست منذ سبعة آلاف عام على العبودية والخرس.. يريدون أن يفتحوا الأعين، لكن ها هي الشرطة تقوم بمهمتها المقدسة وتعمي عيونهم بقنابلها الغازية بغية أن تعلمهم درسًا لا ينسى.. درسًا ثمينًا للغاية.. إن كان أسلافكم قد ماتوا، وهم ممدون بجوار الحائط، الذي حرصوا العمر على أن يسيروا بجواره، فجدير بكم أنتم أن تحفروا لأنفسكم نفقًا وتدخلوا داخله؛ لتجدوا الراحة والطمأنينة والسكينة حتى يدرككم الموت!

انهالت القنابل على المتظاهرين، فتساقطوا فوق بعضهم، وحاول بعض الشباب تغطية وجوههم بملابسهم أو بكوفيات يتدثرون بها اتقاء للبرد، بينما غطت الفتيات وجوههن بطرحهن، ومالت إحداهن- وكانت مكشوفة الرأس- على زميلة لها؛ لتشاركها الاحتماء بأطراف حجابها الصغير.. وبعد أن قامت الشرطة بالخطوة الأولى، جاء دور الخطوة الثانية.

تقدم جنود أمن مركزي متجهمين، متسلحين بدروع وبهراوات غليظة، وبدءُوا يضربون بها الشبان بقسوة وغل.. كان الغل باديًا في أوجه جنود الأمن المركزي، الذين يؤتى بهم كل يوم ليفضوا مظاهرة صغيرة سخيفة كتلك.. إن هؤلاء الشباب المتحمسين، الذين لا يكفون عن التظاهر، وإطلاق الشعارات والصراخ والجعجعة يقضون مضاجعهم، يهددون رزقهم، وربما يكونون سببًا في جوعهم وجوع أطفالهم وتشردهم.. أحسن من يملكون الزمام إدارة اللعبة.. وضعوا الفقراء في مواجهة الفقراء، وتركوهما معًا يطحنان بعضهما لتأكلهما معًا رحى النظام الحاكم، ويتحولان في كرش الدولة إلى كعك إسفنجي.. وضعوا رزق فئة على حد سيف يلامس حياة وكرامة فئة أخرى، فقراء يتقاتلون معًا، ويقتلون ويضربون بعضهم بعضًا؛ لينعم الناهبون والآكلون والسارقون بغنائمهم، وينامون ملء أجفانهم، مطمئنين مستريحي البال، قريري العين على أموالهم وكنوزهم!

اندفع الجنود يضربون بغشم في الكتلة البشرية المتساقطة المتداخلة، وحاول بعض الشباب مدافعتهم وصدهم، وكان هم الشباب الأكبر ألا يدعوا الجنود يصلون إلى الفتيات.. اندفع شاب بقميص مقلم يمسك بهراوة جندي أمن أسمر اللون ضخم، وحاول ثني ذراعيه، وانتزاع الهراوة منه، لكن الجندي كان أقوى منه بكثير, وحقده وخوفه على رزقه ورزق عياله، الذي زرعه فيه كبار لا يخشون فوات رزقهم، فكل خزينة مصر رزق حلال مباح لهم، يجعله شرسًا وقاسيًا.. حد أنه لو رأى أباه نفسه في تلك المظاهرة ما تردد لحظة في تهشيم رأسه أو تحطيم عظامه!

دوت أصوات المزيد من قنابل الغاز، وتكاثر الجنود على الشباب الذين لم يكن لديهم من أسلحة يدافعون بها عن أنفسهم، سوى أذرع وسيقان وحناجر تهتف بصدق بما تعتقد أنه الحق، وأنه صلاح البلد وصالحها.. لكن من يبحث عن صلاح أحد أو مصلحته هنا؟!

لقد تعلموا أن كل رزق يلحق بغيرهم إنما يُنتزع من أرزاقهم، وكل حق يسترده أحد ما هنا يقلل من حقوقهم وامتيازاتهم؛ لذلك فهم يقاتلون بضراوة ليحافظوا على القليل الذي لديهم.. فقد تشبعوا بفلسفة الفقر والعوز والرضا، وزادهم رجال دين لا يفرقون عن الراقصات شيئًا، ويجيدون هز حناجرهم أكثر مما تجيد الراقصات هز وسطهن، خبالًا وضمنوا لهم خسرانًا مبينًا في الدنيا وفي الآخرة أيضًا!

تلاحمت الكتلتين للحظة، ثم انفرجت الدائرة غير المفرغة، كانفجار ورم إلى الخارج.. طفح الصديد الأبيض، ومن ورائه اندفعت الدماء، وبأيدٍ غليظة أحيط بالأولاد، الذين تلقوا لكمات وركلات كمقدم أتعاب وترحيب مبدئي، في انتظار الحفلات التي تنتظرهم في أقسام الشرطة، ثم سيقوا وهم مخضبي الوجوه بالدم.

امتدت الأيدي إلى الفتيات، اللائي حاولن الهرب محتميات ببعضهن، لكن المسالك كلها انسدت وأغلقت في وجوههن، وأحاطت بهن وجوه صلبة متجهمة، وانقض رجال مسلحون محتمون بدروعهم عليهم وأمسكوا بهن بقسوة وغلظة، رغم كل المحاولات التي بذلت من قبل زملائهن الرجال للحيلولة بين الجنود وبين البنات، لكن شيئًا ما لم يعد يجدي.. فشلت المظاهرة، والمراهنة على انضمام المزيد من الجماهير المتحمسة لهم باءت بفشل مؤلم مرير.. تُركوا وحدهم يدافعون عن حقوق من لا يريدون أن يدافع عنهم أحد، من لم يتعودوا حتى أن يدافعوا هم عن حقوقهم أو يجرون وراءها، من سلموا أنفسهم وأقدارهم ومصائر أولادهم وأحفادهم للقدر والنصيب، والمكتوب فوق الجبين الذي لا يمكن الهروب منه أو منعه.. تُركوا وحدهم مجموعة صغيرة أمام قوة تفوقهم عددًا وعدة وسلاحًا وتدريبًا وقسوة وغلظة.. وتباعًا اقتادوهم إلى العربات الكبيرة، التي تنتظر شحنها بالمزيد من هؤلاء الصارخين المحتجين!

لا يحب الموتى من يعكر صفوهم.. نعم.. لا يجب أن يعكر العقلاء صفو هدوء الموتى أو يقلقوا نومتهم الطويلة.. الممتدة.. الأبدية!

 

المرفقات

يمكنك أيضا مشاهدة المنتدى التاريخ
F عيادة فتكات 0

يمكنك أيضا مشاهدة